جاءني مرةً ( وكنت في عنفوان الشباب أكتب في أوائل كتابتي في الرسالة عام 1933 ) ثلاثةٌ من الغرباء عن البلد , لم يعجبني شكلهم ولم يطربني قولهم , فوقفت على الباب أنظر إليهم فأرى الشكل يدل على أنهم غلاظ , وينظرون إليَّ فيرون فيَّ " ولداً " . فقالوا : هذه دار فضيلة الشيخ الطنطاوي ؟ قلت كارهاً : نعم . فقالوا : الوالد هنا ؟ قلت : لا . قالوا : فأين نلقاه ؟ قلت : في مقبرة الدحداح , على الطريق المحاذي للنهر من جهة الجنوب . قالوا : يزور أمواته ؟ قلت : لا . قالوا : إذنْ ؟ قلت : هو الذي يُزار ... فصرخ أحدهم في وجهي صرخةً أرعبتني وقال : مات ؟ كيف مات ؟ قلت : جاء أجله فمات . قالوا: عظم الله أجركم , إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون , يا خسارة الأدب ! قلت : إن والدي كان من أجلِّ أهل العلم ولكن لم يكن أديباً . قالوا : أنت مسكينٌ لا تعرف أباك !
وانصرفوا وأغلقت الباب , وطفقتُ أضحك وحدي مثل المجانين . وحسبت المسألة قد انتهت , فما راعني العشية إلاَّ الناس يتوافدون عليَّ فأستقبلهم , فيجلسون صامتين إن كانوا لا يعرفون شخصي , ومن عرفني ضحك وقال : ما هذه النكتة السخيفة ؟ قلت : أيُّ نكتة ؟ فأَخَرَج أحدهم الجريدة وقال : هذه , هل تتجاهل ؟ فأخذتها وإذا فيها : " نعي الكاتب الـ ... كذا وكذا علي الطنطاوي " !
من كتاب : ( من حديث النفس) للطنطاوي