اخي ابن جوبير العبدلي
إذا كان التجرد عن المرتكزات ، والأناة في الحكم ، والحرية في التفكير شروطا للحياة الفكرية المنتجة ، وللبراعة الفنية في كل دراسة عقلية مهما يكن نوعها ، ومهما يكن موضوعها ، فهي أهم الشروط الأساسية لأقامة
بناء تاريخي محكم لقضايا أسلافنا ترتسم فيه خطوط حياتهم التي صارت ملكا للتاريخ ، ويصور عناصر شخصياتهم التي عرفوها في أنفسهم أو عرفها الناس يومئذ فيهم ، ويتسع لتأملات شاملة لكل موضوع من موضوعات ذلك الزمن المنصرم
وأما إذا جئنا للتاريخ لا لنسجل واقع الأمر خيرا كان أو شرا ، ولا لنجس دراستنا في حدود من مناهج البحث العلمي
الخالص ، ولا لنجمع الاحتمالات والتقديرات التي يجوز افتراضها ليسقط منها على محك البحث ما يسقط ويبقى ما يليقبالتقدير والملاحظة ، بل لنستلهم عواطفنا وموروثاتنا ونستمد من وحيها الأخاذ تاريخ أجيالنا السابقة ، فليس ذلك تاريخا
لاولئك الأشخاص الذين عاشوا على وجه الأرض يوما ما ، وكانوا بشرا من البشر تتازعهم ضروب شتى من الشعور
والأحساس ، وتختلج في ضمائرهم ألوان مختلفة من نوازع الخير ونزعات الشر ، بل هو ترجمة لأشخاص عاشوا في ذهننا وطارت بهم نفوسنا إلى الافاق العالية من الخيال .
فإذا كنت تريد أن تكون حرا في تفكيرك ، ومؤرخا لدينا الناس لا روائيا يستوحي من دنيا ذهنه ما يكتب ، فضع عواطفك
جانبا أو إذا شئت فاملأ بها شعاب نفسك فهي ملك لا ينازعك فيها أحد ، واستثن تفكيرك الذي به تعالج البحث ، فإنه لم يعد
ملكك بعد أن اضطلعت بمسؤولية التاريخ وأخذت على نفسك أن تكون أمينا ليأتي البحث مستوفيا لشروطه قائما على اسس صحيحة من التفكير والاستنتاج . كثيرة جدا هذه الأسباب التي تحول بين نقاد التاريخ وبين حريتهم فيما ينقدون