بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد،وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه وأقتفى أثره إلى يوم الدين ، وبعد :
قال تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقاً على المتقين }(البقره180)
ذكر بعض أهل العلم أن الآية محكمة والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ومن هو في الرق0 وقال كثير من أهل العلم إنها منسوخة بآيات المواريث0
قال أبن عاشور بمناسبة ذكر الوصية عقب حكم القصاص هو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً { كتب عليكم } أنه حق لازم للأمة لا محيد عن الأخذ به فضمير
{عليكم} لمجموع الأمة على الجملة {إذا حضر أحدكم الموت}أي الأسباب والعلامات الدالة على الموت {ترك} وهو ماض عن معنى المستقبل أي أن يترك للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضياً والمعنى أن أوشك أن يترك خيراً0 {خيراً} الخير المال وقيل الكثير منه {الوصية}هي الإيصاء أي الأمر بفعل شيء أو تركه مما فيه نفع للمأمور أو للأمر في مغيب الأمر في حياته أو فيما بعد موته {للوالدين والأقربين} خص الوالدين والاقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي
لأن العرب في الجاهلية كانوا يورثون الذكور من الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة وقدم الوالدين للدلالة على انهما أرجح في التبدية بالوصية وكانوا يوصون بكيفية توزيع أموالهم على اولادهم0 {حقاً} مصدر مؤكد ل"كتب" لأن بمعناه {على المتقين} صفة أي حقاً كائناً على المتقين وإنما خص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به
لأن ماكان من شأن المتقي فهو أمر نفيس وإلا فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم 0
لذا فأن الله سبحانه وتعالى في هذه الآية يبين حكم المال بعد موت صاحبه فإنه لم يسبق له تشريع ، وأنظر الى النكتة أيها القارئ في كونه سبحانه لم يفتتح الآية بقوله {يا أيها الذين آمنوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لنلقي الحكم وقيل : لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقاً بالأموات ومناسبة ذكره أنه تتغير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض وهذا يسبب العداوة بين الأقارب كما قال طرفة وظلم ذوي القربى أشد مضاضة***على المرء من وقع الحسام المهند 0
وكان تغييرها إلى حال العدل فيها من أهم مقاصد الإسلام لأن العرب كان من عاداتهم في الجاهلية إن الميت إذا كان له ولد أو أولاد ذكور استأثروا بماله كله وإن لم يكن له ولد ذكر استأثر بماله أقرب الذكور له من أب وعم أو أبن عم الأدنيان فالأدنيان وكان صاحب المال ربما أوصى لبعض ماله أو بجميعه لبعض أولاده أو قرابته أو أصدقائه فلما أستقر المسلمون بدار الهجرة واختصوا بجماعتهم شرع الله لهم تشريك بعض القرابة في أموالهم ممن كانوا قد يهملون توريثه من البنات والأخوات والوالدين في حال وجود البنين ولذلك لم يذكر الأبناء في هذه الآية0 والوصية مشروعة ولكن أختلف أهل العلم فيها-أتفق أهل العلم على وجوبها على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها وأما إن لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى إنها غير واجبة علي سواء كان فقيراً أو غنياً وقالت طائفة إنها واجبة ومما سبق يتبين أن الوصية تنقسم الى أنواع –1- واجبة: كالوصية برد الودائع والديون غير المثبتة وبالواجبات التي شغلت بها الذمة كالزكاة والحج والكفارات وفدية الصيام والصلاة ونحوها0-2- مستحبة: كالوصية للأقارب غير الوارثين وجمعيات البر والخير والمحتاجين وتسن لمن ترك خيراً وهو المال الكثير عرفاً0 –3- محرمة: كالوصية بمعصية0
وتنعقد الوصية شرعاً بأحد طرق ثلاثة 0العبارة0 الكتابة0 الإشارة الفهمية0
فالعبارة تكون باللفظ الصريح مثل أوصيت لفلان بكذا وبغير الصريح مثل أشهدوا أني أوصيت لفلان بكذا0 وأما الكتابة فتنعقد الوصية بالكتابة من قادر على النطق إذا ثبت أنه خط الموصى بإقرار وارث أو بينة تشهد أنه خطه وإن طال الزمن 0 وأما الإشارة الفهمية فتكون من الأخرس أو معتقل اللسان بشرط ان يصير معتقل اللسان عند الحنفية والحنابلة ميؤوساً من نطقه بأن يموت كذلك وإذا كالعاجز عن النطق عالماً بالكتابة فلا تنعقد وصيته إلا بالكتابة لأن دلالتها على المقصود أدق وأحكم0
ما يستحب أن يكتب في الوصية: قال القرطبي روى الدار قطني عن أنس بن مالك قال كانوا يكتبون في صدر وصاياهم "هذا ما أوصى به فلان بن فلان أنه يشهد إن لا اله الا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور ، وأوصي من يرك بعده من أهله بتقوى الله حق تقاته وأن يصلحوا ذات بينهم ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين وأوصيهم بما وصى به إبراهيم نبيه ويعقوب :بابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وانتم مسلمون أخوتي في الله إن هذه الآية اشتملت على عدة مسائل 0 الأولى إن هذه الآية آية الوصية ليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية وفي النساء { من بعد وصية } (النساء12) وفي المائدة { حين الوصية } (المائدة106) والتي في سورة البقرة أعمها وأكملها ونزلت قبل الفرائض والمواريث 0 الثانية: المراد بالخير هنا المال كقوله { وما تنفقوا من خيرٍ } (البقرة272) وإنه لحب الخير لشديد } (العاديات8) وقد ورد لفظ الخير في القرآن على عدة معان منها الخير المال كقوله تعالى { وما تنفقوا من خيرٍ } والإيمان كقوله تعالى {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم }(الانفال23) والفضل كقوله تعالى {خير الرازقين }{ خير الراحمين } العافية كقوله تعالى {وإن يردك بخير }(يونس107) الثواب كقوله تعالى {والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير }(الحج36) والطعام كقوله تعلى {إني لما أنزلت إلي من خير فقير }(القصص24) والظفر والغنيمة كقوله تعالى { ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً }(الأحزاب25) والخيل كقوله تعالى {إني احببت حب الخير عن ذكر ربي }0 الثالثه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث وهو قول الجمهور وقالوا أن الأقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء لقوله عليه الصلاة والسلام [إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس] وقال أبن عباس: ومن لا وارث له فليس ممن عني بالحديث0 وبه قال أبو عبيدة ومسروق0 الرابعة: أجمع العلماء على أن من مات وله ورثة فليس له أن يوصي بجميع ماله0والله تعالى أجل وأعلم وأحكم ومنه التوفيق سبحانه وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أ0هـ
المراجع-1- الجامع لأحكام القرآن للقرطبي20- محاسن التأويل للقاسمي0 3- جامع البيان عن تأويل القرآن للطبري0 4- روح المعاني للألوسي0 5- التحرير والتنوير لأبن عاشور0 6- التفسير الكبير للرازي0 7-الوصايا والوقف في الفقه الأسلامي للدكتور وهبة الزحلي0 8-الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي0 9- اللباب في علوم الكتاب لأبن عادل الدمشقي0 10- معالم التنزيل للبغوي0 11-تفسير القرآن العظيم لأبن كثير0
منقـــــول
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
غير متواجد حالياً
الوصية
